29 أكتوبر 2018

آخرة المماليك -الجزء الثاني

نتكلم شوية عن تكوين جيش الغوري الجيش كان قوامه المماليك الجلبان و المماليك القرانصة..القرانصة هم مماليك السلاطين السابقين و كانوا بحكم الأقدمية يعتبروا من أهل الخبرة في الحرب و القتال والشؤون العامة ولكن السلطان كان دائم التوجس منهم ولا يضمن ولائهم ويعتبرهم دائما مصدر خطر يهدده ولذلك كان لدي السلطان طائفة اخري من المماليك يشتريهم او يحصل عليهم بطريقة أو بأخري يقربهم منه ويتم تدريبهم في معسكرات خاصة و يغدق عليهم العطايا و الرواتب ليضمن ولائهم و هم المماليك الجلبان و لذلك كان هناك دائما احقاد و ضغائن بين القرانصة و الجلبان وكان من ضمن الجيش ايضا "الخاصكية" وهم بمثابة الحرس الخاص للسلطان..و هم مماليك أشرف السلطان علي تدريبهم بنفسه وعددهم غير كبير مقارنة بعدد الجلبان و قربهم الشديد من السلطان و اعتيادهم علي البذخ والرفاهية جعل منهم مجرد حاشية للسلطان أكثر من كونهم مقاتيلن وكان هناك أيضا أولاد الناس أي اولاد المماليك وهؤلاء جري الاستعانة بهم في الجيوش في نهاية العصر المملوكي وكان يتم استدعائهم وقت الحرب فقط وكان من ضمن الجيش أيضا أجناد الحلقة وهم أيضا يتم استدعائهم عند الحروب و أغلبهم من العربان و بعض أصحاب الحرف وهم مجموعة غير متجانسة و غير محترفين ولزوم البركة أخذ الغوري معه الأربعة أئمة للمذاهب الأربعة و خليفة السيد البدوي و خليفة إبراهيم الدسوقي و خليفة أحمد الرفاعي و خليفة عبد القادر الجيلاني مع عدد من المؤذنين و الوعاظ..يقول ابن زنبل عن جيش الغوري " وكان له نظام عظيم فانخرم ذلك النظام وانتكست تلك الاعلام
معركة مرج دابق :
أرض المعركة هي مرج دابق في حلب..أول من بدأ القتال من الجراكسة كان أصلان بن بداق نائب حمص ثم تبعه الأمير سيباي ثم الأمير سودون العجمي ثم توالي هجوم أمراء المماليك..يقول ابن زنبل :ولم يقاتل في هذا اليوم أكثر من الفي فارس أما جلبان الغوري فلم يتحركوا من مواضعهم..وعلي ماقيل فإن الغوري أمر القرانصة ببدأ القتال لكونهم أكثر خبرة من الجلبان و لكن كان قصده أن ينقطع القرانصة ليكتفي شرهم ويصفو له الوقت فشعر القرانصة بأن في الأمر خدعة فقالوا له نحن نقاتل بأنفسنا مع النار وأنت واقف تنظر الينا كالعين الشامته ما تأمر أحدا من مماليكك يخرج للميدان..ويقول ابن زنبل أن الألفين فارس من المماليك الذين بدأوا الهجوم قد أبلوا بلاءا حسنا رغم أنهم يقاتلون جيشا من 150 الف مقاتل و اشاعوا الرعب في صفوف عسكر ابن عثمان اللذي لم يجد بد من التقدم من الصفوف الخلفية ليبقي وسط جنوده يصرخ عليهم ويحثهم علي القتال مما أثار حماس الجنود فتقدم جيشه حتي اقترب من مركز قيادة الغوري وهنا ظهرت الخيانة..انسحب الأمير خاير بك و الأمير قنبردي الغزالي و نادوا بأعلي صوتهم الفرار الفرار فإن السلطان سليم أحاط بكم وقتل الغوري و الكسرة علينا وطبعا تشتت العسكر و فروا هاربين ووقف الغوري وسط عدد قليل من جلبانه فتقدم إليه الأمير سودون قائلا اين خاصتك ؟ أهكذا عملت بنا ولازلت قائما في حظ نفسك حتي اهلكت نفسك و اهلكتنا معك ..القيامة تجمع بيننا و بينك و سنقف بين يدي مولانا يحكم بيننا بالعدل ..ورغم كل شيء صمد عدد قليل من صناديد أمراء المماليك في المعركة مثل الأمير سودون والأمير سيباي و الأمير أقباي و الأمير علان والأمير أصلان بن بداق مع جنودهم ونجحوا في وقف تقدم جيش ابن عثمان لفترة طويلة و لكن في النهاية الكثرة تغلب الشجاعة وبقي الغوري وحده ومن شدة ما حصل له فإنه انكسر قهرا ووقع علي الأرض مغشيا عليه فجاء اثنان من الأمراء هما الأمير علان و الأمير أقباي و تناقشوا سريعا في أمر السلطان وكان رأيهم أنهم لو تركوه لجاء العدو يأخذ رأسه ويطوف بها جميع بلاد الروم..طيب يعملوا إيه في الورطة دي..؟؟ قالك نقطع إحنا راسه و نرميها في أي جب..وجثة من غير رأس لن يعرفها أحد
و كانت نهاية الغوري بعد حكم دام خمسة عشر سنة و تسعة اشهر و خمسة و عشرين يوما

وطبعا أحاط جيش ابن عثمان بأمراء المماليك و قتلوا أغلبهم وفر منهم من فر لكن كان فيهم بطل اسمه الأمير قنصوه بن السلطان جركس ..هذا البطل حوصر من جنود ابن عثمان ولكنه ظل يضرب فيهم بالسيف حتي خرق الجيش و نجح في الخروج من الناحية الأخري منه ولكن للأسف اثناء هروبه و عبوره أحد الانهار التفت بعض النباتات علي قوائم الفرس فغرق الفرس فهجم جنود ابن عثمان عليه فتلوه. وتم نهب أوطاق الغوري "خيمته ومقر إقامته" و كان فيها شيئا يفوق الوصف من الذهب و الفضىة والقناطير المقنطرة والتحف التي جمعها الملوك السالفة ذهبت كلها في في يوم واحد ويقال أن الغوري اخذ معه مائة قنطار من الدنانير الذهب و مائتي قنطار فضة لنفقة العسكر. ويقول ابن زنبل أن سليم الأول أمر بعد القتلي في اليوم التالي للمعركة فوجدوا الذي قُتل من الجراكسة الف نفس و أكثرهم من المدافع و البنادق _ ابن زنبل يقصد انهم لم يُقتلوا في قتال مباشر بالسيف و هذه شهادة في حق أمراء المماليك المقتولين _ و الذي قُتل من الروم "كان يطلق علي العثمانبن لفظ الروم " كان أربعة الاف نفس وأثناء حصر القتلي وجد رجل عليه ملابس فاخرة و علي وجهه وقار و هيبة فجيئ ببعض الجراكسة ليتعرفوا عليه فوجدوا أنه الأمير سودون العجمي فأمر السلطان سليم بتغسيله و صلي عليه و أمر بدفنه_ يبدو أن السلطان كان قد اعجب بشجاعته في المعركة_
ويقول ابن زنبل عن الجراكسة أنه لما وقعت عليهم الكرة نهب بعضهم بعضا وصار كل إنسان منهم يأخذ ما قدر عليه و كل من كان له عدو وقدر عليه قتله ولكل شئ آفة من جنسه..وهرب أغلب امراء الجراكسة إلي حلب وكانوا قد تركوا أموالهم عند اهلها فمنعهم اهل حلب من دخول المدينة لأنهم سبق واساؤوا معاملتهم اثناء إقامة السلطان في المدينة..أما خاير بك فدخل حلب وقابل محمد ابن السلطان الغوري و كان أبوه قد أبقاه علي خزانته و أمواله في حلب فأقنعه خاير بك بالخروج مع معسكره إلي مصر ..وكانت مكيدة من خاير بك حتي يأخذ السلطان سليم حلب من غير حرب...أما ابن الغوري فقد خرج عليه العربان وهو في الطريق فنهبوه ومن معه ودخل دمشق وهو في اسوأ حال وفي دمشق اختلف أمراء المماليك حول سلطنة ابن الغوري لأنه كان صغيرا ليس فيه كفاءة وقدرة علي السلطنة فقرر امراء المماليك أن يرجعوا إالي مصر ليختاروا سلطانا لهم هناك
ويقول ابن زنبل أن السلطان سليم لم يكن في نيته دخول مصر إلا أن الأميرين الخائنين خاير بك وقنبردي الغزالي هما من حرضاه علي ذلك..
في اليوم التالي لدخولهم القاهرة اجتمع أمراء المماليك في قلعة الجبل و بايعوا طومانباي سلطانا عليهم..يذكر ابن إياس أن الغوري أيام سلطنة الأشرف قايتباي اشتري طومانباي وكانت بينهما صلة قرابة ثم قدمه هدية الي قايتباي وفي عصر الناصر محمد ابن قايتباي اصبح خاصكيا له ثم اعتقه فلما تسلطن قريبه قانصوة الغوري أنعم عليه بأمرية عشرة ثم تدرج في المناصب حتي جعله الغوري نائبا له في ادارة شؤون البلاد عندما خرج لمواجهة ابن عثمان وكان طومان باي غليظ الجثة كبير البطن متوسط الطول كبير اللحية و الوجه وكان خبيرا بالطعن والنزال كان بطلا لا يدانيه أحد من أبطال الجراكسة وكان دينا صالحا زاهدا وكان ذا شهامه غير متجبر زائد الأدب و السكون و الخشوع ملازما لزيارة المشايخ و كان محبوبا من الناس لحسن سياسته وعدله

أول مشكلة واجهت طومانباي كانت النقص الشديد في الأموال لذلك فكر في القبض علي محمد بن الغوري و أخذ ما معه من أموال و لكن مماليك والده اعترضوا بشدة و انتهي الأمر بالإتفاق علي أن يأخذ منه طومانباي ستين الف دينار فقط.
أما السلطان سليم فأول ما دخل حلب أمر بالقبض علي المشايخ و الصوفية اللذين كانوا مع الغوري وأمر برمي رقابهم جميعا و كانوا يزيدون علي الف رجل ثم أرسل ابن عثمان رسالة إلي طومانباي يطلب منه أن تكون السكة-العملة- و الخطبة بإسمه وهو إجراء يعني تبعية مصر له وأن يكون طومانباي نائبا عنه في مصر فلما وصلت الرسالة إلي طومانباي وافق علي مافيه لحقن الدماء ولكن للأقدار رأي آخر...اثناء ذلك وصل الأمير علان إلي الديوان فرأي رسل السلطان سليم واقفين تحت الديون و الناس حولهم و قد انتشر خبر الرسالة وما فيها فلم يتمالك الأميرعلان نفسه فجذب سيفه وضرب أعناق الرسل وكانوا ثلاثة أنفار
ودخل علي السلطان غاضبا رافضا ما جاء في الرسالة فقال له طومانباي انه خشي الحرب لأن العسكر كلهم مختلفون و ليس فيهم أحد مع أحد فما رأيك فقال الأمير علان رأيي أن نقاتل عن بلادنا وعن حريمنا و ارزاقنا او نقتل عن آخرنا فقال السلطان ولكم صبر علي القتال ؟ فقال ما معناه "برقبتي يا ريس" فما أشبه الليلة بالبارحة.
فلما وصلت أنباء قتل الرسل إلي السلطان سليم قرر التحرك إلي مصر ولكن وزيره يونس باشا اقترح عليه الإكتفاء ببلاد الشام حتي غزة علي حدود مصر ولا يدخل مصر فهو يخشي من هجمات العربان فغضب عليه سليم و أسرها في نفسه ..من ناحية أخري عقد طومانباي مجلس الحرب و استقر المماليك علي اختيار جانبردي الغزالي قائدا للجيش" وكان ذلك أول عكسهم لأنه كان ملاحيا عليهم في الباطن ".
تحرك الجيشان و تقابلا عند خان يونس بأرض فلسطين وكانت الكسرة علي الجراكسة بسبب البندق " البنادق" فيقول ابن زنبل " وماضرهم إلا البندق فإنه يأخذ الرجل علي حين غفلة لا يعرف من أين جاءه فقاتل الله أول من صنعها وقاتل من يرمي بها علي من يشهد لله بالوحدانية ولرسوله صلي الله عليه وسلم بالرسالة".
وقبل ان يتحرك السلطان سليم بجيشه إلي داخل مصر قرر القيام بحيلة لتفريق شمل المماليك..جاء برجل يجيد تقليد الخطوط وطلب منه كتابة رسائل بخطوط بعض أمراء المماليك يقول فيها أنهم مع ابن عثمان و أنهم يحرضونه علي دخول مصر ثم طلب من خاير بك أن يرميها بالقرب من خيمة طومانباي
وطبعا تسببت هذه الرسائل في فتنة شديدة بين المماليك و كادوا أن يقتتلوا حتي قال طومانباي لعلها مكيدة من الأعادي..و طلب من امراءه ترك الخلاف و الاستعداد لملاقاة العدو



ليست هناك تعليقات: