الغريب إن العصر العثماني بدأ بالقضاء علي المماليك و انتهي و أمراء المماليك هم المتحكمون في أمور الحكم فالوالي العثماني كان مجرد ديكور و لذلك استهل محمد علي حكمه بمذبحة المماليك للقضاء علي نفوذهم ومن بعده ايضا ابنه ابراهيم صاحب مذبحة المماليك الثانية يعني السلطان سليم يهزم المماليك و يقضي علي دولتهم و بعد 300 سنة تقريبا يقوم محمد علي بمذبحة المماليك للقضاء علي نفوذهم.
فكرة المملوك العبد غير المعروف له أصل وفصل و وفاجأة يبقي امير او سلطان ويتحكم في البلاد والعباد دي فكرة غريبة جدا ..إزاي بقي المماليك العبيد المجهولين النسب بيعتبروا انفسهم جنس ارقي من المصريين اصحاب البلاد الأصليين أصحاب التاريخ و الحسب و النسب ...ظاهرة غريبة فعلا !!! بس تفسيرها إن المماليك كانوا بيتدربوا علي السلاح و فنون القتال ليكونوا مقاتيلن محترفين و بالتالي احتكروا السلاح و القوة العسكرية و من ثم احتكروا الحكم فاحتقروا المصريين.
طيب في عجالة كدة إيه حكاية المماليك...عصر المماليك بينقسم قسمين : مماليك بحرية و مماليك جراكسة أو برجية ...بدأ التوسع في شراء المماليك من نهاية العصر الأيوبي نظرا لتأجج الصراع بين ابناء البيت الايوبي حتي وصل الامر ببعضهم إلي التحالف مع الصليبيين ضد إخوته و تسليمهم بعض المدن التي سبق و أن حررها صلاح الدين مقابل أن يساعدوهم في الحرب ضد إخوتهم
المهم..أخر سلاطين بني أيوب في مصر كان السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب و اللي توسع في شراء المماليك الصغار وكان يتم جلبهم و خطفهم من آسيا الوسطي و أطراف أوروبا الشرقية وغالبا كان بيتم جلبهم صغار و يتم تدريبهم في مكان منعزل ليصبحوا مقاتلين محترفين و لأنهم ليس معروف لهم أصل و ليس لهم أي انتماءات قبيلة أو مذهبية او سيساسية فيكون ولائهم التام للسلطان فقط فهو ولي نعمتهم الذي لا يعرفون غيره. ليه طيب سموهم البحرية ..السلطان الصالح أيوب كان عايز يعزلهم عن المجتمع و يضمن لهم بيئة عسكرية منضبطة و صارمة فاختار لهم جزيرة في وسط النيل بني فيها قلعة لتكون معسكر لتدريب المماليك..والمصريين من قديم الزمان بيقولوا علي النيل "بحر النيل" ومن هنا جت تسمية المماليك البحرية
و بالمناسبة الجزيرة دي هي جزيرة الروضة في المنيل حاليا و علشان كدة محطة مترو الأنفاق القريبة من المنيل اسمها محطة الملك الصالح و كمان في شارع اسمه شارع المماليك و منطقة المماليك في جزيرة الروضة
طبعا كلنا عارفين قصة شجر الدر زوجة نجم الدين أيوب واللي تولت الحكم لفترة وجيزة بعد وفاته ووفاة ابنه توران شاه..شجر الدر تعتبر أول من حكم مصر من المماليك و تروي كتب التاريخ أنها ضربت دينارا خاص بها ودي سابقة في تاريخ المسلمين طبعا وكان مكتوب علي أحد أوجه الدينار إسم الإمام المستعصم بالله و هو الخليفة العباسي وقتها حيث كان يخضع له المسلمين خضوع شكلي فقط وعلي الوجه الآخر "المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصور خليل امير المؤمنين" المستعصمية دي نسبة الي الخليفة المستعصم و الصالحية نسبة الي الصالح نجم الدين. ونلاحظ هنا انها تجنبت تماما ذكر اسمها بشكل مباشر واستخدمت ألقابها فقط و ركزت علي الألقاب اللتي تمنحها الشرعية.. كمان إشارتها الي أنها ام المنصور خليل اللي توفي قبل توليها الحكم ده بيشير الي انها ليست عبدة مملوكة بل انها "ام ولد" و جري العرف وقتها علي أن الجارية اللتي تنجب ولدا لسيدها تصبح حرة. الدينار ده من أندر العملات و المسكوكات الإسلامية لأنه ضرب منه كمية قليلة وتم تداوله لثلاثة أشهر فقط تقريبا.
عصر المماليك البحرية ده شهد عصر الذروة في العمارة الاسلامية في مصر و أعظم و أجمل و أكبر العمائر الإسلامية بنيت في العصر ده زي مجموعة قلاوون و جامع الناصر محمد ابنه ومدرسة السلطان حسن. استمر حكم المماليك البحرية من 1250 م و حتي 1381 م طيب مين المماليك الجراكسة او البرجية..؟؟ قبل وصولهم إلي الحكم بمائة عام تقريبا قرر السلطان قلاوون إنه يجيب مماليك من بلاد بعيده و يكون ولائهم له فقط و يقال أن قلاوون أصلا من أصل جركسي من بلاد القبقاج عند بحر قزوين و يقال أن تسمية البرجية جاءت لأنهم كانوا يسكنون أبراج القلعة و الحصون وفي قول اخر لأن أصولهم تعود الي قبيلة جركسية اسمها "برج".
عصر المماليك الجراكسة ده بقي كان عصر العك كله و اللي يصحي بدري يمسك الحكم ..وصل للحكم فيه أطفال و حكم فيه سلطان لمدة ليلة واحدة ..حكم بالليل و اتعزل الصبح و حاجة زي الفل بس ده ما يمنعش إن العصر ده شهد سلاطين اقوياء حكموا لفترات طويلة زي السلطان برقوق و ابنه فرج و طبعا الأشرف أبوالنصر قايتباي و قنصوه الغوري
نرجع بقي للغزو العثماني ..طبعا ابن إياس من الناس اللي عاصرت الفترة وكتب عنها في كتابه العظيم "بدائع الزهور في وقائع الزهور " لكني سأعتمد علي مصدر تاني وهو كتاب "واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني " لأحمد بن زنبل الرمال" وهو أفضل المصادر بالنسبة لي أولا لأن مؤلفه عاصر الأحداث بنفسه وكان ملاصقا لأمراءالمماليك وكان يقرأ لهم الرمل ولذلك سمي " الرمال " ثانيا الكتاب مختصر وبيركز علي الاحداث و الوقائع المهمة بشكل مباشر
المخطوط الأصلي اسمه " كتاب تاريخ وقعة الغوري هو والسلطان سليم وما جري له مع الجراكسة و الملك طومان باي من الحرب الشديد و الطعن المزيد بوجود خاير بك و الغزالي علي التمام و الكمال و الحمد لله علي كل حال "
المخطوط حققه عبد المنعم عامر ونشرته الهيئة العامة للكتاب مرتين ..مرة ضمن اصدارات أدب الحرب و مرة ضمن اصدارات الألف كتاب الثاني مع مقدمة قيمة جدا للدكتور عبد الرحمن الشيخ.
خرج الغوري لملاقاة بن عثمان ووصل إلي غزه و أول ما وصل الناس خرجت تشتكي إليه من نائبه في غزة ..الغوري عمل فيها غضبان و أمر بعزل الوالي وسجنه...ويومين وخرج الوالي ورجع لمنصبه ...أصله كان ابن عم السلطان الغوري قعد في غزة تلات أيام وصله خلالها رسالة من نائبه علي بلاد الشام الأمير سيباي ينصحه فيها بالبقاء في مصر و إرسال المماليك الي قتال ابن عثمان ويحذره من خيانة الأمير خاير بك الغوري ما سمعش الكلام ..ليه علشان كان في واحد رمال بيقرأ الرمل قال للغوري إن نهايته هاتكون علي يد واحد أول حرف من إسمه سين فالغوري ظن انه الأمير سيباي والرمال المقصود هنا واللي قال كدة للغوري هو احمد بن زنبل مؤلف الكتاب و ده يورينا إن الراجل ده كان قريب جدا من الاحداث.
طيب ليه دماغ الغوري راحت ناحية سيباي مش ناحية سليم العثماني و ليه لم يهتم بأخبار خيانة خاير بك ..ابن زنبل بيقول انه كان معتقد إن إبن عثمان لن يجرؤ علي دخول مصر و لو دخل المماليك هايقطعوه و خاير بك ده راجل جبان أصلا...طيب راجل جبان وواخده معاك الحرب يا غوري..؟؟ أما سيباي فكان راجل شجاع لا يهاب الموت ذا عزم شديد و بأس مديد علشان كدة الغوري المغفل خاف منهز نيجي بقي لسبب المعركة..الموضوع تاريخيا غامض شوية مصادر كتير بتقول إن سليم الأول مكانش ناوي يدخل مصر خالص و كان مشغول بحربه مع الشاه اسماعيل الصفوي و مصادر تانية بتقول إن الغوري كان خارج للصلح بين
سليم و إسماعيل الصفوي .حتة كدة علي الهامش للناس اللي بتقول علي الغزو العثماني فتح..السلطان سليم حارب أبوه علشان يستولي علي العرش و بعد ما استولي علي العرش قتل اخوته.
ابن زنبل بيقول إن سبب العداوة بين سليم والغوري إن سليم كان له أخ اسمه قرقود هرب من بطش أخوه سليم إلي مصر لأنه كان عايز يقتله فاستضافه الغوري ولما أرسل سليم في طلبه رفض الغوري وبيحكي قصة تانية تسببت في شدة العداوة بين سليم و الغوري و هي أن السلطان سليم مر بجيشه بمدينة في الشام كان نائب الغوري عليها اسمه علاء الدولة ..الراجل ده رفض يمد جيش الغوري بالأكل وأمر الناس الا يبيعوا شيئا للجيش و قام بتحصين المدن فغضب ابن عثمان و أراد محاربة علاء الدولة ولكن المستشارين نصحوه بالشكوي إالي الغوري فالغوري أحسن استقبل سفراء سليم وقال لهم أن علاء الدولة عاصي أمري و إن قدرتم عليه اقتلوه ثم أرسل سرا إلي علاء الدولة يشكره علي ما فعل و يحرضه علي قتال بني عثمان. ما تعرفش ازاي السلطان سليم شعر إن الغوري راجل مش تمام و إنه بيلعب عليه " فتحملت نفسه منه غاية التحمل". كمل السلطان سليم طريقه لمحاربة الشاه اسماعيل الصفوي و بعد انتصاره عليه وفي طريق عودته قرر محاربه علاء الدولة.
من سنين طويلة كان يحكم المنطقة دي رجل اسمه شهوار أخو علاء الدين ويبدو إن علاء الدولة طمع في الحكم ففضل يعمل مؤامرات علي أخوه لحد ما تسبب في تسليمه الي السلطان قايتباي في مصر فشنقه علي باب زويله وكان لشهوار ابن هرب إلي السلطان سليم وكان معه في جيشه اللي حارب الشاه اسماعيل الصفوي فلما وقف جيش سليم أمام جيش علاء الدولة خرج ابن شهوار إلي الميدان وقال انا ابن شهوار ..أين من ربي في أنعام ابي.؟ اين المحبون لي ولوالدي ؟ فليأتوا تحت سنجق " راية" من حماني من عدوي ..وهوب وقع الانقسام في جيش علاء الدولة و هزم شر هزيمة و تم القبض علي علاء الدولة وأولاده وقطعت رؤوسهم و أرسلها سليم إلي الغوري " فلما رآهم أحس قلبه بزوال ملكه لما يعلم من من اختلاف عسكره عليه كما وقع لعلاء الدولة فإن الملك ليس هو ملكا إلا بالعسكر فإذا انحرف عليه عسكره ضاع ملكه. بعد هزيمة علاء الدولة طمع ابن عثمان في أخذ مصر فاستشار اثنين من كبار وزراءه في الأمر فقالوا له إنهم اخر مرة واجهوا المماليك هزموا شر هزيمة وواحد من الوزيرين اسمه إبن هرسك وقع أسيرا في يد السلطان قايتباي فعفا عنه ولكن إبن عثمان لم يسمع للوزيرين و أمر بعزلهما وتحرك بجيشه صوب مصر.
كان جيش الغوري قد وصل الي حلب "ودخل جنوده المدينة و أخرجوا الناس من بيوتهم وسبوا حريمهم وأولادهم و آذوهم الأذي البليغ وكان ذلك سببا لقيام أهل حلب مع السلطان سليم علي الجراكسة لشدة ما حل بهم من الضرر منهم.
الجزء اللي جاي ده غريب جدا ..في حلب وصل للغوري رسول من ابن عثمان – قاضي اسمه زبرك زاده- فأحسن الغوري استقباله ولما سأله عن السلطان سليم قال الرسول " هذا ولدك وتحت نظرك فقال له الغوري لولا أنه مثل ولدي ما جئت من مصر الي هنا بأهل العلم جميعا حتي نصلح بينه وبين اسماعيل شاه..ثم أجزل العطاء له و صرفه تقريبا كل واحد منهم كان بينيم التاني علشان يغفله. وبعدين الغوري حب يرد الزيارة للسلطان سليم وفكر يرسل له رسول يجس النبض ويشوف إيه النوايا فلما شاور الغوري أكابر دولته في ذلك اقترحوا عليه أن يرسل رجلين من اهل العلم و الدين ليتكلما بالمعروف رجاءا لحقن دماء المسلمين ولكن الغوري لم يفعل وأمر الأمير "مغلباي" ومعه عشرة من خيار العسكر بالتوجه إلي ابن عثمان وهم ملبسين بالملابس الفاخرة كل من رآهم يتعجب في خلقهم وحسن خيلهم وهندامهم وهم كالعرائس..وغالبا كانوا لابسين لبس الحرب لأنهم لما دخلوا علي ابن عثمان قال لهم بغيظ : يا مغلباي أستاذك ما كان عنده رجل من أهل العلم يرسله لنا..؟؟ و إنما أرسلك بهؤلاء العشرة يرعب بهم قلوب عسكري ويخوفهم برؤية أجناده ولكن انا أكيده بمكيده أعظم من مكيدته ثم أمر برمي رقبة مغلباي و جماعته وبعد وساطة كبار الدولة قتل الجنود فقط و أمر بسجن مغلباي يومين ثم احضره و حلق ذقنه و البسه طرطورا و ركبه علي حمار اعرج معقور وقال له قل لأستاذك يجتهد جهده وها أنا حضرت اليه كالبرق الخاطف و الرعد القاصف. فلما تأكد الغوري أن الحرب قائمة لا محالة أرسل الأمير "كرتباي الوالي" ليستطلع أخبار جيش ابن عثمان فبعد فترة وجيزة رجع كرتباي وأخبر السلطان أن مدينتي قيصيرية و عنتاب_مدن تابعة لسلطة الغوري_ قد عصوا علينا و أرادوا قتالنا فارتج عسكر مصر لذلك ووقع فيهم الخلل فعند ذلك انتبه الغوري و جمع الأمراء و تحالفوا علي أن لا أحد منهم يخون صاحبه ووسط إجتماع الأمراء قام الامير "سيباي" نائب الشام وقبض علي الأمير خاير بك نائب حلب و جره من طوقه بين يدي السلطان الغوري وقال له يا مولانا إذا أردت أن ينصرك الله علي عدوك فاقتل هذا الخائن و كان خاير بك في يده كالشاة بين يدي السبع وهو يجره عندئذ تدخل خائن آخر وهو الامير قنبردي الغزالي _و أحيانا يذكر بإسم جان بردي الغزالي_ و قال للسلطان لاتفتن العسكر و تبدأ في قتال بعضهم بعضا فتضعف شوكتكم فصدقه الغوري وأمر أن يتحالفوا بينهم و الا يخون منهم أحد..كان راجل مغفل الغوري ده.



ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق