30 أكتوبر 2018

الحملة الصليبية علي دمياط

يحكي المقريزي عن الحملة الصليبية علي دمياط في كتابه " السلوك لمعرفة دول الملوك " فيقول عن أحداث عام 615 هجريا :" فيها اجتمع رأي الفرنجة علي الرحيل من عكا إلي مصر والإجتهاد في تملكها فأقلعوا في البحر وأرسو علي دمياط علي بر جيزة دمياط صار النيل بينهم وبين البلد وكان إذ ذاك علي النيل برج منيع في غاية القوة والإمتناع فيه سلاسل من حديد عظام القدر والغلظ تمتد في النيل لتمنع المراكب الواصلة في بحر الملح من عبور أرض مصر وتمتد هذه السلاسل في برج آخر يقابله وكانا مشحونين بالمقاتلة ويعرف اليوم مكانهما في دمياط ببين البرجين وصار الفرنج في غربي النيل فأحاطوا علي معسكرهم خندقا وبنوا بدائره سورا وأخذوا في محاربة أهل دمياط وعملوا آلات ومرمات وأبراجا متحركة يزحفون بها في المراكب إلي برج السلسلة ليملكوه حتي يتمكنوا من البلد "فخرج السلطان الملك الكامل لمواجهتهم وكان يحكم مصر بتكليف من والده الملك العادل اللذي توفي في نفس العام فاستقل الكامل بحكم مصر....وألح الفرنج في مقاتلة أهل البرج فلم يظفروا بشئ وكُسرت مرماتهم وآلاتهم وتمادي الأمر علي ذلك أربعة أشهر حتي نجح الفرنج في الإستيلاء علي برج السلسلة وقطعوا السلاسل المتصلة به لتعبر مراكبهم في بحر النيل ويتمكنوا من أرض مصر فنصب الملك الكامل عوضا عن السلاسل جسرا عظيما يمنع الفرنج من عبور النيل فقاتل الفرنج عليه قتالا كثيرا حتي قطعوه وكان قديما أنفق علي هذا البرج والجسر ما ينيف علي سبعين الف دينار فأمر الكامل بتغريق عدة مراكب في النيل منعت الفرنجه من سلوكه فعدل الفرنجة إلي خليج هناك يعرف بالأزرق كان النيل يجري فيه قديما فحفروه حفرا عميقا وأجروا فيه الماء إلي البحر الملح فجرت سفنهم فيه إلي ناحية بورة_علي ساحل البحر المتوسط من

 ناحية بحيرة البرلس وإليها ينسب السمك البوري_ لمواجهة الملك الكامل فلما وصلوا بورة قاتلوه في الماء وزحفوا عليه غير مرة فلم ينالوا منه غرضا طائلا ولم يضر أهل دمياط ذلك لتواصل الإمداد والميرة إليهم وكون النيل يحجز بينهم وبين الفرنج بحيث كانت أبواب المدينة مفتحة وليس عليها حصر ولا ضيق البتة هذا والعربان تخطف الفرنج في كل ليلة بحيث منعهم ذلك من الرقاد خوفا من غاراتهم فتكالب العرب عليهم حتي صاروا يختطفونهم نهارا ويأخذون الخيم بمن فيها فأكمن لهم الفرنج عدة كمناء وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأدرك الناس الشتاء فهاج البحر علي معسكر المسلمين وغرق الخيم فعظم البلاء واشتد الكرب وألح الفرنج في القتال ولم يبق إلا أن يملكوا البلاد فأرسل الله سبحانه ريحا قطعت مراسي مرمة كانت للفرنج من عجائب الدنيا _عبارة ست سفن ضخمة تم ربطهم في بعض وتم تصفيحهم بالحديد فكانت كالمدينة الصغيرة_ فمرت تلك المرمة إلي البر الذي فيه المسلمين فملكوها فإذا هي مصفحة بالحديد لا تعمل فيها النار ومساحتها خمسمائة ذراع وفيها من المسامير ما زنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا وبعث السلطان إلي الآفاق سبعين رسولا يستنجد أهل الإسلام علي قتال الفرنج ويستحثهم علي إنقاذ المسلمين منهم وإغاثتهم ويخوفهم من تغلب الفرنج علي مصر فإنه متي ملكوها لا يمتنع عليهم شيئ من الممالك بعدها فقدمت النجدات من الشام من عند الملك المعظم عيسي والأشرف موسي اخوة الملك الكامل...ولكن حدث بعد موت الملك العادل أن ثار العرب بنواحي أرض مصر وكثر خلافهم واشتد ضررهم واتفق مع ذلك حدوث خلاف بين بعض كبار الأمراء وحدث تمرد وقرر بعضهم تنصيب الفائز أخو الكامل ملكا علي مصر فلما عرف الكامل خشي علي نفسه فهرب إلي "أشموم طناح" في الدقهلية فنزل بها فأصبح العسكر وقد فقدوا السلطان فركب كل أحد هواه ولم يعرج واحد منهم علي آخر وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم ولم يأخذ كل أحد إلا ما خف حمله فبادر الفرنج عند ذلك وعبروا بر دمياط وهم آمنون من غير منازع ولا مدافع واخذوا كل ما كان في معسكر المسلمين وكان شيئا لا يقدر قدره فتزلزل الملك الكامل وهم بمفارقة أرض مصر ثم تثبت فتلاحق به العسكر وبعد يومين وصل إليه أخوه الملك المعظم عيسي صاحب دمشق فقويت به شوكته وقوي ساعده هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط من البحر والبر وأحدقوا بها وحصروها وضيقوا علي أهلها ومنعوا الأقوات أن تصل إليهم وحفروا علي معسكرهم المحيط بدمياط
خندقا وبنوا عليه سورا وأهل دمياط يقاتلونهم أشد القتال وأنزل الله عليهم الصبر فثبتوا مع قلة الأقوات عندهم وشدة غلاء الأسعار وأخذ الكامل في محاربة الفرنج وهم قد حالوا بينه وبينها ولم يصل إليه أحد من عنده سوي رجل من الجاندارية وكان هذا الرجل قد قدم إلي القاهرة من بعض قري حماة ويسمي "شمايل" فتوصل حتي صار يخدم في الركاب السلطاني جاندارا وكان يخاطر بنفسه ويسبح في النيل ومراكب الفرنج به محيطة والنيل قد امتلأ بشواني_سفن_الفرنج فيدخل إلي مدينة دمياط ويأتي السلطان بأخبار أهلها فإذا دخل إليها قوي قلوب أهلها ووعدهم بقرب وصول النجدات فحظي بذلك عند الكامل وتقدم تقدما كثيرا وجعله أمير جانداره وسيف نقمته وولاه القاهرة وإليه تنسب خزانة شمايل_سجن مشهور في القاهرة مكانه الآن جامع المؤيد شيخ_واشتد قتال الفرنج وعظمت نكايتهم لأهل دمياط وكان فيها نحو العشرين ألف مقاتل فنهكتهم الأمراض وغلت عندهم الأسعار حتي بيعت البيضة الواحدة من بيض الدجاج بعدة دنانير وامتلأت الطرقات من الأموات وعدمت الأقوات وصار السكر في عزة الياقوت وفقدت اللحوم فلم يقدر عليها بوجه وآلت بالناس الحال إلي أن لم يبق عندهم غير الشيئ اليسير من القمح والشعير فقط فتسور الفرنج السور وملكوا منه البلد فكانت مدة الحصار ستة عشر شهرا واثنين وعشرين يوما وعندما أخذوا دمياط اعملوا السيف في الناس فم يُعرف عدد من قتل لكثرتهم ورحل السلطان بعد ذلك بيومين وخيم بالمنزلة التي عرفت بالمنصورة وحصن الفرنج أسوارا في دمياط وجعلوا جامعها كنيسة وبثوا سراياهم في القري يقتلون ويأسرون فعظم الخطب واشتد البلاء وندب السلطان الناس وفرقهم في الأرض فخرجوا إلي الآفاق يستصرخون الناس لإستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج وشرع السلطان

 في بناء الدور والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورة وجهز الفرنج من حصل في أيديهم من أساري المسلمين في البحر إلي عكا وبرزوا من مدينة دمياط يريدون أخذ مصر والقاهرة فنازلوا السلطان تجاه المنصورة وصار بينهم وبين العسكر بحر أشموم وبحر دمياط وكان الفرنج في مائتي ألف رجل وعشرة الاف فارس فقدم السلطان الشواني_السفن الحربية_ تجاه المنصورة وهي مائة قطعة واجتمع الناس من أهل مصر وسائر النواحي ما بين أسوان والقاهرة ونودي بالنفير العام فأجمع من المسلمين عالم لا يقع عليه حصر فحوصر الفرنج وانقطع عنهم الميرة من البر والبحر وقدمت النجدات للملك الكامل من بلاد الشام وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدد الفرنج علي دمياط فوافي دمياط منهم طوائف لا حصر لها فلما تكامل جمعهم بدمياط خرجوا منها في حدهم وحديدهم وقد زين لهم سوء عملهم أن يملكوا أرض مصر ويستولوا منها علي مماليك البسيطة كلها وقدمت النجدات للملك الكامل من الشام فوصل عدد فرسان المسلمين نحو أربعين الفا فحاربوا الفرنج في البر والبحر وكانت العامة تكر علي الفرنج أكثر ما يكر عليهم العسكر واخذوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسه "أنواع من السفن الحربية" وأسروا منهم الفين ومائتي رجل ثم ظفروا أيضا بثلاث قطائع- نوع آخر من المراكب الحربية- فتضعضع الفرنج لذلك وضاق بهم المقام وبعثوا يسألون في الصلح ولكن بشروط منها أخذ القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية وسائر مافتحه السلطان صلاح الدين من بلاد الساحل فأجابهم الملوك إلي ذلك ما خلا الكرك والشوبك..؟؟؟ فأبي الفرنج وقالوا لا نسلم دمياط حتي تسلموا ذلك كله فرضي الكامل ؟؟؟؟؟ فامتنع الفرنج وقالوا لابد أن تعطونا خمسمائة الف دينار لنعمر ماخربتم من أسوار القدس مع اخذ ما ذكر من البلاد مع اخذ الشوبك والكرك ايضا فاضطر المسلمون إلي قتالهم وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلي الأرض التي عليها معسكر الفرنج وفتحوا مكانا عظيما في النيل وكان الوقت في قوة الزيادة فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد غرق أكثر الأرض التي هم عليها وصار حائلا بينهم وبين دمياط واصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها سوي جهة واحدة ضيقة فأمر السلطان في الحال بنصب الجسور عند بحر أشموم طناح ليعبر عساكر المسلمين عليها وملكت الطريق التي تسلكها الفرنج الي دمياط فانحصروا من سائر الجهات وقدر الله تعالي أن تصل فرقة عظيمة في البحر للفرنج وحولها عدة حراقات تحميها وسائرها مشحونة بالميرة والسلاح وسائر ما يحتاج اليه فأوقع شواني الإسلام وكانت بينهما حرب أنزل الله فيها نصره علي المسلمين فظفروا بها وبما معها من الحراقات ففت ذلك في أعضاد الفرنج وألقي في جنوبهم الرعب والذلة بعدما كانوا في غاية الإستظهار والعنت علي المسلمين وعلموا أنهم مأخذون لا محالة وعظمت نكاية المسلمين بهم برميهم إياهم بالسهام وحمل علي أطرافهم فأجمعوا أمرهم علي مناهضة المسلمين ظنا منهم أنهم يصلون إالي دمياط فخربوا خيامهم ومجانيقهم وعزموا علي أن يحطموا "يهجموا" حطمة واحدة فلم يجدوا إلي ذلك سيبلا لكثرة الوحل والمياه التي قد ركبت الأرض من حولهم فعجزوا عن الإقامة لقلة الأزواد عندهم ولاذوا إلي طلب الصلح وبعثوا يسألون الملك الكامل وأخوته الأشرف والمعظم الأمان لأنفسهم وأنهم يسلمون دمياط بغير عوض فاٌقتضي رأي الملك الكامل إجابتهم واقتضي رأي غيره من إخوته مناهضتهم واجتثاث أصلهم فخاف الملك الكامل إن فعل ذلك أن يمتنع من بقي منهم بدمياط أن يسلمها ويحتاج الحال إلي منازلتها مدة فإنها كانت ذات أسوار منيعة وزاد الفرنج عندما استولوا عليها في تحصينها ولا يؤمن في طول محاصرتها أن يفد ملوك الفرنج لنجدة من فيها وطلب ثأر من قتل من أكابرهم هذا وقد ضجرت عساكر المسلمين وملت من طول الحرب فإنها مقيمة في محاربة الفرنج ثلاث سنين وأشهرا وما زال الكامل قائما في

 تأمين الفرنج إلي أن وافقه بقية الملوك علي أن يبعث الفرنج برهائن من ملوكهم لا من أمرائهم إلي أن يسلموا دمياط فطلب الفرنج أن يكون إبن الملك الكامل عندهم إلي أن تعود إليهم رهائنهم فتقرر الأمر علي ذلك وحلف كل من ملوك المسلمين والفرنج وبعث الفرنج بعشرين ملكا من ملوكهم رهنا منهم يوحنا صاحب عكا ونائب البابا وبعث إليهم الملك الكامل إبنه الملك الصالح نجم الدين ايوب وعمره يومئذ خمسة عشر عاما ومعه جماعة من خواصه...وتسلم المسلمون مدينة دمياط يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب فلما تسلمها المسلمون قدم في ذلك اليوم من الفرنجة نجدة عظيمة يقال أنها الف مركب فعد تأخيرهم إلي ما بعد تسليمها من الفرنج صنعا جميلا من الله سبحانه وتعالي وشاهد المسلمون عندما تسلموا دمياط من تحصين الفرنج لها ما لا يمكن أخذها بالقوة ثم تبادل الطرفان الرهائن وتقررت الهدنة بين الطرفين لمدة ثماني سنين لا يستثني منها سوي أصحاب التيجان من ملوك أوروبا فإن لهم حق نقضها ولقد كانت الحملة التي وصلت بعد توقيع الهدنة من طرف فردريك الثاني إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة قادرة علي كسر الهدنة ولكن وجود الرهائن من الملوك عند المصريين أخاف الفرنج من عواقب ذلك..وحلف ملوك المسلمين وملوك الفرنج علي الهدنة فكانت مدة إستيلاء الفرنج علي دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوما

29 أكتوبر 2018

كيف مات توران شاه

كيف مات توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب آخر سلاطين الأيوبيين..يقول المقريزي :
"أَن السُّلْطَان الْمُعظم أعرض عَن مماليك أَبِيه الَّذين كَانُوا عِنْده لمهماته واطرح الْأُمَرَاء والأكابر أهل الْحل وَالْعقد وَأبْعد غلْمَان أَبِيه واختص بجماعته الَّذين قدمُوا مَعَه وولاهم الْوَظَائِف السُّلْطَانِيَّة. وَقدم الأراذل: وَجعل الطواشي مَسْرُورا - هُوَ خادمه - أستادار السُّلْطَان وَأقَام صبيحاً - وَكَانَ عبدا حَبَشِيًّا فحلاً - أَمِير جاندار _أي حاجب يستأذن في دخول الأمراء علي السلطان_وأنعم عَلَيْهِ بأموال كَثِيرَة وإقطاعات جليلة وَأمر أَن يصاغ لَهُ عَصا من ذهب. وأساء السُّلْطَان إِلَى المماليك وتوعدهم وَصَارَ إِذا سكر فِي اللَّيْل جمع مَا بَين يَدَيْهِ من الشمع وَضرب رءوسها بِالسَّيْفِ حَتَّى تتقطع وَيَقُول: هَكَذَا أفعل بالبحرية_يقصد المماليك البحرية_ وَيُسمى كل وَاحِد مِنْهُم باسمه. واحتجب أَكثر من أَبِيه مَعَ الانهماك على الْفساد بمماليك أَبِيه وَلم يَكُونُوا يألفون هَذَا الْفِعْل من أَبِيه وَكَذَلِكَ فعل بحظايا أَبِيه.وَصَارَ مَعَ هَذَا جَمِيع الْحل وَالْعقد وَالْأَمر وَالنَّهْي لأَصْحَابه الَّذين قدمُوا مَعَه فنفرت قُلُوب البحرية مِنْهُ وَاتَّفَقُوا على قَتله وَمَا هُوَ إِلَّا أَن مد السماط بعد نُزُوله بفارسكور فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سادس عشري الْمحرم وَجلسَ السُّلْطَان على عَادَته تقدم إِلَيْهِ وَاحِد من البحرية - وَهُوَ بيبرس البندقداري الَّذِي صَار إِلَيْهِ ملك مصر - وضربه بِالسَّيْفِ: فَتَلقاهُ الْمُعظم بِيَدِهِ فَبَانَت أَصَابِعه والتجأ إِلَى البرج الْخشب الَّذِي نصب لَهُ بفارسكور وَهُوَ يَصِيح: من جرحني. قَالُوا: الحشيشة _ طائفة الحشاشين اللذين اشتهروا بالإغتيالات السياسية_فَقَالَ: لَا وَالله إِلَّا البحرية "المماليك البحريه" وَالله لَا أبقيت مِنْهُم بَقِيَّة واستدعى المزين ليداوي يَده. فَقَالَ البحرية بَعضهم لبَعض: تمموه وَإِلَّا أبادكم فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ. ففر الْمُعظم إِلَى أَعلَى البرج وأغلق بَابه وَالدَّم يسيل من يَده فأضرموا النَّار فِي البرج ورموه بالنشاب فَألْقى نَفسه من البرج وَتعلق بأذيال الْفَارِس أقطاي واستجار بِهِ فَلم يجره وفر الْمُعظم هَارِبا إِلَى الْبَحْر وَهُوَ يَقُول: مَا أُرِيد ملكا دَعونِي أرجع إِلَى الْحصن يَا مُسلمين مَا فِيكُم من يصطعني ويجيرني هَذَا وَجَمِيع الْعَسْكَر واقفون فَلم يجبهُ أحد والنشاب يَأْخُذهُ من كل نَاحيَة. وسبحوا خَلفه فِي المَاء وقطعوه بِالسُّيُوفِ قطعا حَتَّى مَاتَ جريحاً حريقاً غريقاً وفر أَصْحَابه واختفوا. وَترك الْمُعظم على جَانب الْبَحْر ثَلَاثَة أَيَّام منتفخاً لَا يقدر أحد أَن يتجاسر على دَفنه إِلَى أَن شفع فِيهِ رَسُول الْخَلِيفَة "
مات جريحا حريقا غريقا..موته يستحقها الكثير من السلاطين

آخرة المماليك- الجزء الرابع والأخير

عند الجيزة التقي جيش السلطان سليم مع جيش المماليك الصغير بقيادة الأمير شاربك ومعه مجموعة من أشجع أمراء المماليك ..فلما تقارب الجمعان انطلق الأمير شاربك و حمل عليهم حملة واحدة زلزلتهم فما كان جيش ابن عثمان إلا أن رموا عليهم بالمدافع و البندق وسائر ألات الحرب الحديثة التي لا يعلم عنها المماليك شيئا ورغم كل شيئ ثبت أمراء المماليك وقاتلوا قتال من يأس من الحياة و قاتل الأمير شاربك قتال الجبابرة فأمر السلطان سليم بأن يلتف حوله الجند لمحاصرته من كل جانب ولكن صار كل من يقترب منه يهلك فلم يقدروا عليه وكان يصرخ فيهم ويسبهم سبابا فاحشا وينادي علي السلطان سليم أين انت يا سليم يا من يريد أن يكون سيد الملوك و السلاطين ابرز إلي الميدان إن كنت سلطانا..آه يا جبان يا إبن الجبان يا من يقاتل المسلمين بالنيران ..ثم نظر يساره فوجد الروم يحاصرون الأمير دولتباي فمال عليهم ميلة منكرة كالأسد الغضبان وكذلك أبلي أمراء المماليك البلاء الحسن قتقهقرت قوات ابن عثمان وعجزوا العجز العظيم و ذاقوا البلاء العميم لأنهم في طول حياتهم ما قاسوا قتالا مثل هذا اليوم
ولم يتبق مع الأمير شاربك سوي خمسمائة فارس من الألفين وكان كل من هرب أو اصيب من المماليك الأتباع وليسوا من الأمراء فكل الأمراء خرجوا سالمين من المعركة الأولي ورغم قلة عددهم إلا أنهم حققوا نصرا كبيرا في الجولة الأولي نادي الأمير شاربك في الفرسان يحثهم علي الصبر و القتال وقال لهم اعلموا إنكم تقاتلوا عن حريمكم و أولادكم و اموالكم وبلادكم فمن قُتل منكم مات شهيدا ومن عاش منكم عاش سعيدا وأما هؤلاء فإنهم باغون عليكم.

و علي الجانب الآخر وبناءا علي نصيحة من خاير بك خرج السلطان بنفسه الي قادة جيشه يحثهم علي القتال ويعدهم بالترقي و العطاء الجزيل فلما كانت الجولة الثانية انقض الأمير شاربك و المماليك علي جنود الروم ففتكوا بهم واذاقوهم الذل و الهوان و كان الأمير شاربك كالأسد حتي هرب الجنود من أمامه وقالوا هذا ليس ببشر و لا أحد يطيق قتاله وحتي قادة جيش ابن عثمان أعجبوا بشجاعته وفروسيته ولم يجد السلطان سليم بدا من سحب قواته إلي ضفة النيل قاصدا الإنسحاب و اثناء ذلك شاهد الامير شاربك غبار كثيف من خلفه فنظر فإذا هم عرب غزالة للمرة الثانية فلجأ الي الخدعة و تظاهر بالهزيمة و أنه ينسحب بجنوده فطمع فيه العربان و طاردوه حتي بعد عن ميدان المعركة ثم دار و انقض عليهم كالأسد فولوا منهزمين ورغم أن عرب غزالة قد جاءوا لنصرة السلطان سليم إلا أنه أمر قواته برميهم بالبنادق و المدافع فقتل وجرح الكثير منهم وانسحب الباقون ووقفوا ينظرون ماذا يكون بين الفريقين..أما الأمير شاربك فقد طلب من احد أمراءه أن يأخذ مائة فارس ويحمي ظهره من هجمات العرب و أخذ هو ثلاثمائة فارس وهجم علي جيش ابن عثمان المكون من الآلاف المؤلفة وتخطي رمي البندق و المدافع حتي قالوا عنه أنه مجنون أو معه احد من الجن يساعده ..وانقضي النهار و الأمير شاربك ومعه العدد القليل ممن تبقي من أبطال المماليك يضربون أعناق جنود إبن عثمان يمينا ويسارا ولا يقدر عليهم احد حتي انسحب الجنود أمامه للمرة الثانية وهو واقف يسبهم..وفي الليل جاء رسول من عند طومانباي الي شاربك ليطلب منه اللحاق بالسلطان..قال شاربك أن السلطان لو كان لحق بهم اثناء المعركة لانتصروا علي ابن عثمان انتصارا ساحقا ولكن هذا من علامات زوال دولتهم و قال انه هو ورجاله لم يقاتلوا لأنفسهم بل قاتلوا عن حريمهم وديارهم وأموالهم و أولادهم ثم أمر من تبقي معه من الرجال بالرحيل ليلا ومروا من أمام جيش إبن عثمان ولم يجروء أحد علي الخروج لمواجهتم..وعند الوراق التقي طومانباي بشاربك و أحسن استقباله ومن تبقي معه من الأبطال ورفض لسلطان أن يترجل أيا منهم عن فرسه وسلم عليهم وهم علي ظهور الخيل..ثم اجتمع طومانباي مع الأمراء لينظروا في أمرهم فاستقر الأمر علي أن يرسل السلطان رسولا إلي عرب غزالة يستميلهم إليه ويعدهم بالعطاء الجزيل ولكن المحاولة باءت بالفشل
ثم خرج السلطان ومعه أمراء المماليك إلي قرية أم دينار ليبيتوا فيها ولكن في الصباح هجم عليهم جانبردي الغزالي علي رأس جيش من الروم و دارت ملحمة عظيمة بين الطرفين وكالعادة في منتصف المعركة أقبل عرب غزالة بخيلهم وانضموا إلي جيش جانبردي الغزالي فاشتد الأمر علي المماليك وكان السلطان طومان باي قد بارز جانبردي وجها لوجه وانتصر عليه وكاد أن يقتله لولا أن اقسم الأخير عليه أن يعفو عنه فعفا عنه السلطان وطلب منه الإنسحاب بقواته من المعركة ففعل وهو يضمر في قلبه شيئا ثم جاءت قوات اضافية أرسلها يونس باشا من القاهرة لمؤازرة السلطان سليم فتحير الجراكسة ولم يدروا مايفعلون فخطب فيهم الأمير شاربك يطلب منهم الثبات في المعركة ولكن فاجأة جائت خيل من خلفهم بقيادة الخائن جان بردي فحوصر المماليك من كل الجهات وقُتل منهم عدد كبير لم يُقتل في أي يوم سابق


وبعد أن إنقضي النهار وانفصلت القوات عن بعضها اجتمع طومانباي مع أمراءه وأقروا بزوال دولتهم واقترح طومانباي أن يذهب إالي قبيلة عرب محارب فإن طومانباي له سابقة فضل علي زعيمهم "حسن بن مرعي" وابن عمه "صقر" فهو من ولاهم علي القبيلة وهو من اطلق سراح حسن بن مرعي من الحبس بعد أن سجنه الغوري وكتب علي قيده "مُخلد" وقد أخذ عليه طومانباي العهود و المواثيق و الأيمان المغلظة أن يكون معه ظاهرا وباطنا..وفي الليل تحرك طومانباي ومن معه إلي قرية "سخا " من أعمال كفر الشيخ حيث حسن ابن مرعي والذي خرج في استقبال السلطان وأحسن استقباله فطلب منه السلطان أن يوفر لهم ملاذا آمنا فاقترح عليهم مكانا يقال له الغابة عبارة عن وادي له مدخل ضيق لا يمكن أن يدخله إلا فارس واحد ولذلك يسهل الدفاع عنه فلما تحركوا جميعا تجاه الوادي ووصلوا إليه انقبض قلب السطان حين رآه وقال لمن معه إني رأيت منام من يومين ..رأيت نفسي في هذا الوادي وقد احاطت بس خمسة كلاب سود تنهش في لحمي فارتبك أمراء المماليك و احتاروا في أمرهم حتي قال السلطان لأمراءه أنا احللكم فاذهبوا حيث شئتم و أنا سأسلم نفسي ولكن ابن مرعي حثهم علي الاختباء في الوادي سريعا عل العدو يكون في أثرهم وفعلا دخل السلطان و الأمراء إلي الوادي ورجع ابن مرعي إلي بلدته وهو متحير فهو يري أن المماليك قد زالت دولتهم فعلا ولا مجال لنصرهم وفي نفس الوقت هو قد أخذ العهد علي نفسه أن يكون مع السلطان..وفاجأة أقبلت خيل كثيرة علي البلدة فخرج إليهم ابن مرعي ليستطلع أمرهم فوجد جيشا من جنود السلطان سليم بقيادة خاير بك وجانبردي الغزالي الذي تتبع السلطان سليم في الليل ليعلم إلي أين يتجه ثم عاد إلي السلطان سليم يطلب إرسال قوة معه والعودة لمطاردة طومانباي فلما قابلوا ابن مرعي سألوه إذا كان يعلم أي أخبار عن طومانباي فقال لهم اللذي يدلكم عليه بغير حرب ماذا يكون له عندكم فأجذلوا له العطاء و وعدوه بوعود سخية له ولإبن عمه فلما عاد إلي بيته وحكي لوالدته وكانت من الصالحات فذكرته بفضل طومانباي عليه وما بينهما من العهود واقترحت عليه أن يرسل إلي طومانباي يخبره بالأمر فإن شاء قاتلهم وإن شاء هرب فوافقها في الأمر وخرج من عندها ولكن نفسه حدثته بعكس ذلك ولما اجتمع بإبن عمه استقر رأيهما علي أن يكونا مع السلطان سليم فإن المماليك قد زالت دولتهم..أما طومانباي فقد قال لأمرائه أنه رأي في المنام هذه الليلة قائلا يقول له إن رسول الله يقرئك السلام ويقول لك أن دولتكم قد زالت وعمركم قد فرغ و انت جارنا في الجنة بعد أربعة أيام فارجع عن القتال فلا فائدة فيه ثم رمي طومانباي سيفه وطلب من أمراءه أن يتفرقوا وبينما هم كذلك إلا وقد هجمت عليهم جنود ابن عثمان فركب فرسان المماليك وهجموا عليهم فلما رأي جانبردي الغزالي ذلك طلب من قواته أن يفسحوا طريقا للماليك وأن يسمحوا لهم بالهرب فإن طومانباي ليس معهم وفعلا خرج الأمراء كل منهم في إتجاه وفر البطل شاربك الأعور و أتجه إالي صديقه الحميم شيخ العرب أحمد بن بقر وحكي له ما حصل وطلب منه أن يأويه فترة من الزمن حتي يستطيع إرسال أبناءه وحريمه إلي خارج البلاد ثم يلحق بهم ولكن الخيانة كامنة في النفوس ففي الليل دخل ابن بقر علي الأمير شاربك ومعه عدد كبير من الرجال فضربه علي رأسه ثم قيدوه واخذوه أسيرا إلي جان بردي الغزالي اللذي فرح كثيرا بالقبض علي شاربك وأخذه ليقف بين يدي السلطان سليم..ووقف الأمير بين يدي السلطان وقفة الأبطال فلم يهتز ورد عليه في كل كلمة قالها وأفحمه فأمر السلطان بإلقاءه في السجن..أما طومانباي فقد القي بجميع أسلحته وعدته وقابل أعداءه وحيدا فريدا فدخل عليه الغزالي وخاير بك وحسن بن مرعي وأمروا الجنود أن يغمدوا سيوفهم فهو أعزل وربطوا يديه من الأمام وأركبوه بغلة وساروا به الي السلطان سليم اللذي فرح فرحا شديدا عندما وصلته الأخبار وأمر أن يعمل الديوان الملكي علي أبهي زينة و أن يقف الأمراء بين يديه و أن تضرب المدافع و أن تدق الطبلخانات ثم أمر بإحضار طومانباي وابن مرعي فلما دخل عليه سلم عليه سلام الملوك ولم ينقص مقامه وأمره بالجلوس وعاتبه علي ماحدث من القتال ودار بينهما حوار طويل تكلم فيه طومانباي بشجاعة وفصاحة حتي قال ابن عثمان والله إن مثل هذا الرجل لا يُقتل ولكن اخروه في الترسيم-السجن- حتي ينظروا في أمره..ولكن الخائنين خاير بك و الغزالي حرضا السلطان علي قتله فاستجاب لهما وأمر أيضا بقتل البطل شاربك الأعور.
وهنا ننقل عن ابن إياس لأن وصفه ليوم قتل طومانباي أدق وأكثر تفصيلا :
يقول ابن إياس : أنهم خرجوا بطومانباي راكبا علي أكديش _بغل_ وحوله أربعمائة عثماني وشقوا به القاهرة حتي وصلوا إلي باب زويله وهو لايدري ماذا ما يُفعل به فلما رأي الحبال علم أنهم يشنقونه فقال للناس من حوله اقرأوا الفاتحة لي ثلاث مرات ثم بسط يده فقرأ وقرأت الناس معه ثم قال للمشاعلي : إعمل شغلك
فلما وضعوا الخية في رقبته ورفعوا الحبل انقطع به وسقط وقيل انقطع به الحبل مرتين فلما شُنق صرخت الناس صرخة عظيمة وكُثر عليه الحزن والأسف وكان عمره وقتها نحو أربعة وأربعين عاما ..و تركوا جثته معلقة ثلاثة أيام حتي فاحت رائحتها وفي اليوم الثالث انزلوه ونُقلت جثته إالي مدرسة السلطان الغوري حيث غسلوه و كفتوه وصلوا عليه ودُفن في الحوش الذي خلف المدرسة.



آخرة المماليك- الجزء الثالث

لما دخل جيش السلطان سليم مصر نادي طومانباي في عسكره أن كل من جاء برأس رومي له مايريد من كل شيئ فخطف المماليك كثيرا من جنود بن عثمان وقدموا رؤوسهم للسلطان فصار يجزل عطاياهم ولكن للخيانة رأي آخر..أرسل الأمير جانبردي الغزالي الي السلطان سليم يخبره بتفاصيل خطة المماليك  وأنهم اخرجوا مدافعهم الكبيرة و جعلوها في الريدانية-منطقة العباسية حاليا- و أنه نصحهم بدفنها في الرمال حتي لا يعلم أحد من الجواسيس مكانها ونصح السلطان سليم أن يلتف بجنوده و يأتي من ناحية الجبل من خلف المدافع ..وفي ليلة المعركة الفاصلة معركة الريدانية اجتمع طومانباي مع إثنين من أشجع أمراءه وهما الأمير علان والأمير كرتباي الوالي و كانوا قد تأكدوا من خيانة جانبردي الغزالي و لكن خشوا أن يقتلوه فيفتن العسكر و يتفرقوا و أتفق الثلاثة أن يقصدوا سنجق السلطان سليم فلا يرجعوا إلا أن يقتلوه او يقتلوا..وبدأت المعركة و انقض طومانباي ومعه الأميران علان وكرتباي علي جنود ابن عثمان فاخترقوا الصفوف في بسالة نادرة حتي وصلوا إلي صنجق-راية- السلطان فظن طومانباي أن الذي تحت الراية السلطان سليم فجذبه بيده ورفعه ثم رماه علي الأرض و انقض عليه الأمير كرتباي فقطع رأسه
و لكن للأسف كان القتيل هو الوزير سنان باشا (من الطرائف أن أسماء أهم ثلاثة شوارع في حي الزيتون هي سليم الأول وطومان باي وسنان باشا )..ثم عاد طومان باي و الأميرين يخترقوا الصفوف ليعودوا إلي جيشهم فوجدوا الجيش قد انهزم و هرب أغلب الجنود ثم أصيب الأمير علان في قصبه رجله بطلقة بندقية فخرج من المعركة ولم يبق مع طومانباي إلا الأمير كرتباي الوالي فاتجه ناحية طرا –طرة البلد حاليا- وتبعه بعض الأمراء والجنود تباعا حتي وصل عددهم إلي سبعة الاف فارس
اما السلطان السليم فدخل القاهرة ومكث في القلعة وقت قليل ونزل منها ثم فضل أن يكون مقر اقامته في جزيرة في النيل ليأمن علي نفسه..أما طومانباي و جنوده فبعد أن جمعوا شتات أنفسهم اتفقوا علي الرجوع إلي مصر -القاهرة- وأن يحاربوا عدوهم حتي يفنوا عن آخرهم..فرجع ونزل في الشيخونية وهي المنطقة من مسجد شيخون بشارع الصليبة بالسيدة زينب حاليا وحتي القلعة و انتشرت جنوده في الحارات فقتلوا من جنود ابن عثمان نحو عشرة الاف في ليلة واحدة وفي صباح اليوم التالي هجمت جنود ابن عثمان علي الشيخونية وكانت حرب في الشوارع و الحواري فانكسروا و كرروا الهجوم ثلاثة أيام فكانت الكسرة عليهم في كل مرة و قتل منهم نحو خمسة عشر الفا في ثلاثة أيام.

و يقول ابن إياس أن السلطان سليم لما علم بأن طومانباي ينزل في جامع شيخون أرسل عساكره فاحرقت الجامع " فتح عثماني بقي "..فلما ازدادت خسائر ابن عثمان قرر أن يركب بنفسه و يواجه طومانباي في الرميلة ونوي أن وقعت الكسرة عليه يرجع إالي بلاده وطبعا لأن المعركة كانت في ميدان مفتوح وكان للعثمانين ميزة استخدام البنادق عن بعد فقد هزموا الجراكسة مرة اخري و هرب أغلب المماليك إلا طومانباي وقف يقاتل كالأسد وقتل عددا لا يحصي من جنود ابن عثمان ثم اخذ في الإنسحاب تدريجيا لما رأي هزيمة جنوده و كان قد اتفق مع عسكره أنه في حالة الهزيمة يكون موعدهم الجيزة ..بعد موقعة الريدانيه عاد السلطان سليم إلي جزيرته منتصرا و طلب مشورة خاير بك فقال له نادي بالأمان علي الجراكسة لمدة ثلاثة أيام – بمعني أن من سلم نفسه من الجراكسة خلال الأيام الثلاثة فهو آمن – و من وجد عنده جركسي بعد الأيام الثلاثة شُنق علي باب داره ومن أبلغ عن جركسي فعليه الأمان ..وكان الأمير الشجاع كرتباي الوالي قد اصيب بطلقة بندقية في فخذه فاختبأ عند رجل من اصحابه فلما سمع هذا الرجل النداء خاف علي نفسه وقال لنفسه الأفضل أن أذهب الي السلطان سليم وأخبره أن الأمير كرتباي عندي وآخذ له الأمان فأنجو أنا وينجو الامير وفعلا ذهب الي السلطان ففرح جدا و أرسل معه منديل الأمان و المصحف وكتب كتابا إلي الأمير كرتباي يؤمنه فيه علي نفسه إن جاء إليه فرجع الرجل إلي الأمير كرتباي واقنعه بتسليم نفسه وفعلا ذهب الأمير إلي السلطان ووقف أمامه وقفة الشجعان و تكلم بكل شجاعة وفصاحة و قال للسطان انه لم ينتصر إلا بالبندق فليس في جنوده من يقدر علي مواجهة ابطال المماليك في الميدان وقال خطبة عصماء في مواجهة السلطان ورغم غضب السلطان منه إلا أنه رأي أن يستفيد من شجاعة هذا الأمير و يضمه إلي جيشه و لكن خاير بك خوفه أن هذا الأمير يقتله أو يفسد عليه عسكره وأشار عليه بقتله فقتله ابن عثمان رغم انه كان قد سبق و اعطاه الأمان..وظل الأمير كرتباي علي شجاعته وصلابته حتي سب السلطان سليم سبابا فاحشا و السياف واقفا فوق رأسه يستعد لقطعها.
أما طومانباي فبعد أن اجتمع مع من تبقي من عسكره في بر الجيزة و تشاوروا في امرهم اتجه طومانباي إلي الصعيد وقصد هوارة وطلب منهم النصرة و ان يرفع عنهم الخراج ثلاث سنوات فأبوا فعاد ادراجه و تبعه سبعة الاف من العربان محبة فيه
و قرب اطفيح رأي طومانباي سفن حربية في النيل فعلم أن السلطان سليم أرسلها لمواجهته وكانت قوات السلطان سليم بقيادة الأمير جانم السيفي أحد الأمراء الخونة في جيش طومانباي الذين انضموا إلي بن عثمان جاء اليه بجيش كبير به اكثر من عشرين الف جندي فلما اصطف الفريقان للحرب ارتعبت العربان من النيران فقالوا نحن نرجع إلي الخلف وننظر من كانت الكسرة عليه نهبناه وبقي مع طومانباي عدد قليل من جنوده ورغم ذلك قاتلوا قتال الأبطال و لم يستطع جيش جانم السيفي هزيمته وعاد الي سفنه مرة اخري. وفي الليل اتفق طومانباي مع أمراءه علي أن يقسموا الجيش إلي فرقتين واحدة تواجه جيش العثمانيين و الثانية تلتف من حوله و تأخذ السفن ثم تنقض علي العثمانيين من الخلف و بالفعل نجحت الخطة في اليوم التالي و انتصر جيش طومانباي انتصارا ساحقا وتسبب ذلك في غضب السلطان سليم غضبا شديدا علي خاير بك كونه هو من حرض السلطان علي دخول مصر..ثم قرر السلطان سليم أن يرسل إلي طومانباي يطلب منه أن يدخل تحت طاعته و أن تكون السكة و الخطبه باسمه علي يحكم طومانباي مدي الحياة..فلما وصلت الرسل إلي طومانباي فقراأ الرسالة و تشاور مع أمراءه فقرروا رفض ما فيها و الاستمرار في قتال ابن عثمان بل وقتلوا الرسول.

تحرك ابن عثمان بقواته وأمر العسكر بالعبور إلي البر الغربي علي أفواج في كل فوج ما يقرب من الفين جندي فاستغل طومانباي الموقف وهجم علي الفوج الأول فأباده فأمر السلطان سليم بألا يعبر أحد الي الضفة الاخري و أمر بنصب المدافع و الضرب بها علي الجهة الأخري وأثناء المعركة حدثت مفاجأة.. جاء من خلف جيش طومانباي عدد كبير جدا من الفرسان فلما اقتربوا إذا بهم عرب غزالة فبادروا السلطان طومانباي بالسب و الشتم و طلبوا منه أن يكف عن قتال السلطان سليم وأن يخرج من أرض مصر " فإنكم قد قتلتم منا خلقا كثيرا في أيام ولايتكم وما منا أحد إلا وله أحد قد قتلتموه " فلم يجد طومانباي بدا من الإنسحاب إلي ناحية الهرم وعند الأهرامات أنشد طومانباي قصيدة طويلة من الشعر تحكي ماحدث لدولة المماليك ثم اتجه إلي دهشور ونادي أن الخراج بطال ثلاث سنوات و أنه من أرد القتال و نصرة السلطان فليسرع الينا وله ما لنا وعليه ماعلينا فاجتمع حول السلطان عدد كبير من الناس و استقر الرأي علي تجهيز جيش بقيادة الأمير شاربك الأعور _ الحقيقة هو كان أحول وليس أعور ولكن المصريون يحبون المبالغة _وهو من الأبطال الصناديد و الفرسان القلائل .. وتوجه شاربك لمحاربة ابن عثمان علي أن ينتظر طومانباي في دهشور..أما السلطان سليم فندم أشد الندم علي دخوله مصر وقرر مرة أخري إرسال رسول إلي طومانباي لعقد صلح بينهما وكان الرسول هو الأمير خوشقدم ..فقابل خوشقدم جيش طومانباي بقيادة الأمير شاربك و عرض عليه الصلح ولكن حدثت مشادة بينه وبين أمراء المماليك نظرا لوجود منافسة و مشاحنة بينهم سابقا وكانت النتيجة أن اقتتل خوشقدم مع المماليك و اصيب وقُتل أكثر من كان معه فعاد إلي السلطان السلم اللذي اغتاظ غيظا شديدا و استدعي خاير بك و أخبره أنه يريد العوده إلي بلاده وطبعا خاين بك يعلم تماما أنه في حال عودة السلطان سليم إلي بلاده فإن طومانباي و المماليك سيتخلصون منه بسبب خيانته و لذلك عمل مرة أخري علي اقناع ابن عثمان بالبقاء في مصر
جهز ابن عثمان جيشا فيه أربعين الف فارس ومثلهم مشاة من خلاصة شجعان جنوده و عبر النهر إلي بر الجيزة لمواجهة طومانباي.


آخرة المماليك -الجزء الثاني

نتكلم شوية عن تكوين جيش الغوري الجيش كان قوامه المماليك الجلبان و المماليك القرانصة..القرانصة هم مماليك السلاطين السابقين و كانوا بحكم الأقدمية يعتبروا من أهل الخبرة في الحرب و القتال والشؤون العامة ولكن السلطان كان دائم التوجس منهم ولا يضمن ولائهم ويعتبرهم دائما مصدر خطر يهدده ولذلك كان لدي السلطان طائفة اخري من المماليك يشتريهم او يحصل عليهم بطريقة أو بأخري يقربهم منه ويتم تدريبهم في معسكرات خاصة و يغدق عليهم العطايا و الرواتب ليضمن ولائهم و هم المماليك الجلبان و لذلك كان هناك دائما احقاد و ضغائن بين القرانصة و الجلبان وكان من ضمن الجيش ايضا "الخاصكية" وهم بمثابة الحرس الخاص للسلطان..و هم مماليك أشرف السلطان علي تدريبهم بنفسه وعددهم غير كبير مقارنة بعدد الجلبان و قربهم الشديد من السلطان و اعتيادهم علي البذخ والرفاهية جعل منهم مجرد حاشية للسلطان أكثر من كونهم مقاتيلن وكان هناك أيضا أولاد الناس أي اولاد المماليك وهؤلاء جري الاستعانة بهم في الجيوش في نهاية العصر المملوكي وكان يتم استدعائهم وقت الحرب فقط وكان من ضمن الجيش أيضا أجناد الحلقة وهم أيضا يتم استدعائهم عند الحروب و أغلبهم من العربان و بعض أصحاب الحرف وهم مجموعة غير متجانسة و غير محترفين ولزوم البركة أخذ الغوري معه الأربعة أئمة للمذاهب الأربعة و خليفة السيد البدوي و خليفة إبراهيم الدسوقي و خليفة أحمد الرفاعي و خليفة عبد القادر الجيلاني مع عدد من المؤذنين و الوعاظ..يقول ابن زنبل عن جيش الغوري " وكان له نظام عظيم فانخرم ذلك النظام وانتكست تلك الاعلام
معركة مرج دابق :
أرض المعركة هي مرج دابق في حلب..أول من بدأ القتال من الجراكسة كان أصلان بن بداق نائب حمص ثم تبعه الأمير سيباي ثم الأمير سودون العجمي ثم توالي هجوم أمراء المماليك..يقول ابن زنبل :ولم يقاتل في هذا اليوم أكثر من الفي فارس أما جلبان الغوري فلم يتحركوا من مواضعهم..وعلي ماقيل فإن الغوري أمر القرانصة ببدأ القتال لكونهم أكثر خبرة من الجلبان و لكن كان قصده أن ينقطع القرانصة ليكتفي شرهم ويصفو له الوقت فشعر القرانصة بأن في الأمر خدعة فقالوا له نحن نقاتل بأنفسنا مع النار وأنت واقف تنظر الينا كالعين الشامته ما تأمر أحدا من مماليكك يخرج للميدان..ويقول ابن زنبل أن الألفين فارس من المماليك الذين بدأوا الهجوم قد أبلوا بلاءا حسنا رغم أنهم يقاتلون جيشا من 150 الف مقاتل و اشاعوا الرعب في صفوف عسكر ابن عثمان اللذي لم يجد بد من التقدم من الصفوف الخلفية ليبقي وسط جنوده يصرخ عليهم ويحثهم علي القتال مما أثار حماس الجنود فتقدم جيشه حتي اقترب من مركز قيادة الغوري وهنا ظهرت الخيانة..انسحب الأمير خاير بك و الأمير قنبردي الغزالي و نادوا بأعلي صوتهم الفرار الفرار فإن السلطان سليم أحاط بكم وقتل الغوري و الكسرة علينا وطبعا تشتت العسكر و فروا هاربين ووقف الغوري وسط عدد قليل من جلبانه فتقدم إليه الأمير سودون قائلا اين خاصتك ؟ أهكذا عملت بنا ولازلت قائما في حظ نفسك حتي اهلكت نفسك و اهلكتنا معك ..القيامة تجمع بيننا و بينك و سنقف بين يدي مولانا يحكم بيننا بالعدل ..ورغم كل شيء صمد عدد قليل من صناديد أمراء المماليك في المعركة مثل الأمير سودون والأمير سيباي و الأمير أقباي و الأمير علان والأمير أصلان بن بداق مع جنودهم ونجحوا في وقف تقدم جيش ابن عثمان لفترة طويلة و لكن في النهاية الكثرة تغلب الشجاعة وبقي الغوري وحده ومن شدة ما حصل له فإنه انكسر قهرا ووقع علي الأرض مغشيا عليه فجاء اثنان من الأمراء هما الأمير علان و الأمير أقباي و تناقشوا سريعا في أمر السلطان وكان رأيهم أنهم لو تركوه لجاء العدو يأخذ رأسه ويطوف بها جميع بلاد الروم..طيب يعملوا إيه في الورطة دي..؟؟ قالك نقطع إحنا راسه و نرميها في أي جب..وجثة من غير رأس لن يعرفها أحد
و كانت نهاية الغوري بعد حكم دام خمسة عشر سنة و تسعة اشهر و خمسة و عشرين يوما

وطبعا أحاط جيش ابن عثمان بأمراء المماليك و قتلوا أغلبهم وفر منهم من فر لكن كان فيهم بطل اسمه الأمير قنصوه بن السلطان جركس ..هذا البطل حوصر من جنود ابن عثمان ولكنه ظل يضرب فيهم بالسيف حتي خرق الجيش و نجح في الخروج من الناحية الأخري منه ولكن للأسف اثناء هروبه و عبوره أحد الانهار التفت بعض النباتات علي قوائم الفرس فغرق الفرس فهجم جنود ابن عثمان عليه فتلوه. وتم نهب أوطاق الغوري "خيمته ومقر إقامته" و كان فيها شيئا يفوق الوصف من الذهب و الفضىة والقناطير المقنطرة والتحف التي جمعها الملوك السالفة ذهبت كلها في في يوم واحد ويقال أن الغوري اخذ معه مائة قنطار من الدنانير الذهب و مائتي قنطار فضة لنفقة العسكر. ويقول ابن زنبل أن سليم الأول أمر بعد القتلي في اليوم التالي للمعركة فوجدوا الذي قُتل من الجراكسة الف نفس و أكثرهم من المدافع و البنادق _ ابن زنبل يقصد انهم لم يُقتلوا في قتال مباشر بالسيف و هذه شهادة في حق أمراء المماليك المقتولين _ و الذي قُتل من الروم "كان يطلق علي العثمانبن لفظ الروم " كان أربعة الاف نفس وأثناء حصر القتلي وجد رجل عليه ملابس فاخرة و علي وجهه وقار و هيبة فجيئ ببعض الجراكسة ليتعرفوا عليه فوجدوا أنه الأمير سودون العجمي فأمر السلطان سليم بتغسيله و صلي عليه و أمر بدفنه_ يبدو أن السلطان كان قد اعجب بشجاعته في المعركة_
ويقول ابن زنبل عن الجراكسة أنه لما وقعت عليهم الكرة نهب بعضهم بعضا وصار كل إنسان منهم يأخذ ما قدر عليه و كل من كان له عدو وقدر عليه قتله ولكل شئ آفة من جنسه..وهرب أغلب امراء الجراكسة إلي حلب وكانوا قد تركوا أموالهم عند اهلها فمنعهم اهل حلب من دخول المدينة لأنهم سبق واساؤوا معاملتهم اثناء إقامة السلطان في المدينة..أما خاير بك فدخل حلب وقابل محمد ابن السلطان الغوري و كان أبوه قد أبقاه علي خزانته و أمواله في حلب فأقنعه خاير بك بالخروج مع معسكره إلي مصر ..وكانت مكيدة من خاير بك حتي يأخذ السلطان سليم حلب من غير حرب...أما ابن الغوري فقد خرج عليه العربان وهو في الطريق فنهبوه ومن معه ودخل دمشق وهو في اسوأ حال وفي دمشق اختلف أمراء المماليك حول سلطنة ابن الغوري لأنه كان صغيرا ليس فيه كفاءة وقدرة علي السلطنة فقرر امراء المماليك أن يرجعوا إالي مصر ليختاروا سلطانا لهم هناك
ويقول ابن زنبل أن السلطان سليم لم يكن في نيته دخول مصر إلا أن الأميرين الخائنين خاير بك وقنبردي الغزالي هما من حرضاه علي ذلك..
في اليوم التالي لدخولهم القاهرة اجتمع أمراء المماليك في قلعة الجبل و بايعوا طومانباي سلطانا عليهم..يذكر ابن إياس أن الغوري أيام سلطنة الأشرف قايتباي اشتري طومانباي وكانت بينهما صلة قرابة ثم قدمه هدية الي قايتباي وفي عصر الناصر محمد ابن قايتباي اصبح خاصكيا له ثم اعتقه فلما تسلطن قريبه قانصوة الغوري أنعم عليه بأمرية عشرة ثم تدرج في المناصب حتي جعله الغوري نائبا له في ادارة شؤون البلاد عندما خرج لمواجهة ابن عثمان وكان طومان باي غليظ الجثة كبير البطن متوسط الطول كبير اللحية و الوجه وكان خبيرا بالطعن والنزال كان بطلا لا يدانيه أحد من أبطال الجراكسة وكان دينا صالحا زاهدا وكان ذا شهامه غير متجبر زائد الأدب و السكون و الخشوع ملازما لزيارة المشايخ و كان محبوبا من الناس لحسن سياسته وعدله

أول مشكلة واجهت طومانباي كانت النقص الشديد في الأموال لذلك فكر في القبض علي محمد بن الغوري و أخذ ما معه من أموال و لكن مماليك والده اعترضوا بشدة و انتهي الأمر بالإتفاق علي أن يأخذ منه طومانباي ستين الف دينار فقط.
أما السلطان سليم فأول ما دخل حلب أمر بالقبض علي المشايخ و الصوفية اللذين كانوا مع الغوري وأمر برمي رقابهم جميعا و كانوا يزيدون علي الف رجل ثم أرسل ابن عثمان رسالة إلي طومانباي يطلب منه أن تكون السكة-العملة- و الخطبة بإسمه وهو إجراء يعني تبعية مصر له وأن يكون طومانباي نائبا عنه في مصر فلما وصلت الرسالة إلي طومانباي وافق علي مافيه لحقن الدماء ولكن للأقدار رأي آخر...اثناء ذلك وصل الأمير علان إلي الديوان فرأي رسل السلطان سليم واقفين تحت الديون و الناس حولهم و قد انتشر خبر الرسالة وما فيها فلم يتمالك الأميرعلان نفسه فجذب سيفه وضرب أعناق الرسل وكانوا ثلاثة أنفار
ودخل علي السلطان غاضبا رافضا ما جاء في الرسالة فقال له طومانباي انه خشي الحرب لأن العسكر كلهم مختلفون و ليس فيهم أحد مع أحد فما رأيك فقال الأمير علان رأيي أن نقاتل عن بلادنا وعن حريمنا و ارزاقنا او نقتل عن آخرنا فقال السلطان ولكم صبر علي القتال ؟ فقال ما معناه "برقبتي يا ريس" فما أشبه الليلة بالبارحة.
فلما وصلت أنباء قتل الرسل إلي السلطان سليم قرر التحرك إلي مصر ولكن وزيره يونس باشا اقترح عليه الإكتفاء ببلاد الشام حتي غزة علي حدود مصر ولا يدخل مصر فهو يخشي من هجمات العربان فغضب عليه سليم و أسرها في نفسه ..من ناحية أخري عقد طومانباي مجلس الحرب و استقر المماليك علي اختيار جانبردي الغزالي قائدا للجيش" وكان ذلك أول عكسهم لأنه كان ملاحيا عليهم في الباطن ".
تحرك الجيشان و تقابلا عند خان يونس بأرض فلسطين وكانت الكسرة علي الجراكسة بسبب البندق " البنادق" فيقول ابن زنبل " وماضرهم إلا البندق فإنه يأخذ الرجل علي حين غفلة لا يعرف من أين جاءه فقاتل الله أول من صنعها وقاتل من يرمي بها علي من يشهد لله بالوحدانية ولرسوله صلي الله عليه وسلم بالرسالة".
وقبل ان يتحرك السلطان سليم بجيشه إلي داخل مصر قرر القيام بحيلة لتفريق شمل المماليك..جاء برجل يجيد تقليد الخطوط وطلب منه كتابة رسائل بخطوط بعض أمراء المماليك يقول فيها أنهم مع ابن عثمان و أنهم يحرضونه علي دخول مصر ثم طلب من خاير بك أن يرميها بالقرب من خيمة طومانباي
وطبعا تسببت هذه الرسائل في فتنة شديدة بين المماليك و كادوا أن يقتتلوا حتي قال طومانباي لعلها مكيدة من الأعادي..و طلب من امراءه ترك الخلاف و الاستعداد لملاقاة العدو



28 أكتوبر 2018

آخرة المماليك- الجزء الأول

بمناسبة مرور 500 عام علي الغزو االعثماني لمصر هانحكي شوية عن دخول بني عثمان مصر و نهاية حكم المماليك اللي استمر من سنة 1250 م الي سنة 1517 م تاريخ موقعة الريدانية
الغريب إن العصر العثماني بدأ بالقضاء علي المماليك و انتهي و أمراء المماليك هم المتحكمون في أمور الحكم فالوالي العثماني كان مجرد ديكور و لذلك استهل محمد علي حكمه بمذبحة المماليك للقضاء علي نفوذهم ومن بعده ايضا ابنه ابراهيم صاحب مذبحة المماليك الثانية يعني السلطان سليم يهزم المماليك و يقضي علي دولتهم و بعد 300 سنة تقريبا يقوم محمد علي بمذبحة المماليك للقضاء علي نفوذهم.
فكرة المملوك العبد غير المعروف له أصل وفصل و وفاجأة يبقي امير او سلطان ويتحكم في البلاد والعباد دي فكرة غريبة جدا ..إزاي بقي المماليك العبيد المجهولين النسب بيعتبروا انفسهم جنس ارقي من المصريين اصحاب البلاد الأصليين أصحاب التاريخ و الحسب و النسب ...ظاهرة غريبة فعلا !!! بس تفسيرها إن المماليك كانوا بيتدربوا علي السلاح و فنون القتال ليكونوا مقاتيلن محترفين و بالتالي احتكروا السلاح و القوة العسكرية و من ثم احتكروا الحكم فاحتقروا المصريين.
طيب في عجالة كدة  إيه حكاية المماليك...عصر المماليك بينقسم قسمين : مماليك بحرية و مماليك جراكسة أو برجية ...بدأ التوسع في شراء المماليك من نهاية العصر الأيوبي نظرا لتأجج الصراع بين ابناء البيت الايوبي حتي وصل الامر ببعضهم إلي التحالف مع الصليبيين ضد إخوته و تسليمهم بعض المدن التي سبق و أن حررها صلاح الدين مقابل أن يساعدوهم في الحرب ضد إخوتهم
المهم..أخر سلاطين بني أيوب في مصر كان السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب و اللي توسع في شراء المماليك الصغار وكان يتم جلبهم و خطفهم من آسيا الوسطي و أطراف أوروبا الشرقية وغالبا كان بيتم جلبهم صغار و يتم تدريبهم في مكان منعزل ليصبحوا مقاتلين محترفين و لأنهم ليس معروف لهم أصل و ليس لهم أي انتماءات قبيلة أو مذهبية او سيساسية فيكون ولائهم التام للسلطان فقط فهو ولي نعمتهم الذي لا يعرفون غيره. ليه طيب سموهم البحرية ..السلطان الصالح أيوب كان عايز يعزلهم عن المجتمع و يضمن لهم بيئة عسكرية منضبطة و صارمة فاختار لهم جزيرة في وسط النيل بني فيها قلعة لتكون معسكر لتدريب المماليك..والمصريين من قديم الزمان بيقولوا علي النيل "بحر النيل" ومن هنا جت تسمية المماليك البحرية
و بالمناسبة الجزيرة دي هي جزيرة الروضة في المنيل حاليا و علشان كدة محطة مترو الأنفاق القريبة من المنيل اسمها محطة الملك الصالح و كمان في شارع اسمه شارع المماليك و منطقة المماليك في جزيرة الروضة
طبعا كلنا عارفين قصة شجر الدر زوجة نجم الدين أيوب واللي تولت الحكم لفترة وجيزة بعد وفاته ووفاة ابنه توران شاه..شجر الدر تعتبر أول من حكم مصر من المماليك و تروي كتب التاريخ أنها ضربت دينارا خاص بها ودي سابقة في تاريخ المسلمين طبعا وكان مكتوب علي أحد أوجه الدينار إسم الإمام المستعصم بالله و هو الخليفة العباسي وقتها حيث كان يخضع له المسلمين خضوع شكلي فقط وعلي الوجه الآخر "المستعصمية الصالحية ملكة المسلمين والدة المنصور خليل امير المؤمنين" المستعصمية دي نسبة الي الخليفة المستعصم و الصالحية نسبة الي الصالح نجم الدين. ونلاحظ هنا انها تجنبت تماما ذكر اسمها بشكل مباشر واستخدمت ألقابها فقط و ركزت علي الألقاب اللتي تمنحها الشرعية.. كمان إشارتها الي أنها ام المنصور خليل اللي توفي قبل توليها الحكم ده بيشير الي انها ليست عبدة مملوكة بل انها "ام ولد" و جري العرف وقتها علي أن الجارية اللتي تنجب ولدا لسيدها تصبح حرة. الدينار ده من أندر العملات و المسكوكات الإسلامية لأنه ضرب منه كمية قليلة وتم تداوله لثلاثة أشهر فقط تقريبا.
عصر المماليك البحرية ده شهد عصر الذروة في العمارة الاسلامية في مصر و أعظم و أجمل و أكبر العمائر الإسلامية بنيت في العصر ده زي مجموعة قلاوون و جامع الناصر محمد ابنه ومدرسة السلطان حسن. استمر حكم المماليك البحرية من 1250 م و حتي 1381 م طيب مين المماليك الجراكسة او البرجية..؟؟ قبل وصولهم إلي الحكم بمائة عام تقريبا قرر السلطان قلاوون إنه يجيب مماليك من بلاد بعيده و يكون ولائهم له فقط و يقال أن قلاوون أصلا من أصل جركسي من بلاد القبقاج عند بحر قزوين و يقال أن تسمية البرجية جاءت لأنهم كانوا يسكنون أبراج القلعة و الحصون وفي قول اخر لأن أصولهم تعود الي قبيلة جركسية اسمها "برج".
عصر المماليك الجراكسة ده بقي كان عصر العك كله و اللي يصحي بدري يمسك الحكم ..وصل للحكم فيه أطفال و حكم فيه سلطان لمدة ليلة واحدة ..حكم بالليل و اتعزل الصبح و حاجة زي الفل بس ده ما يمنعش إن العصر ده شهد سلاطين اقوياء حكموا لفترات طويلة زي السلطان برقوق و ابنه فرج و طبعا الأشرف أبوالنصر قايتباي و قنصوه الغوري
نرجع بقي للغزو العثماني ..طبعا ابن إياس من الناس اللي عاصرت الفترة وكتب عنها في كتابه العظيم "بدائع الزهور في وقائع الزهور " لكني سأعتمد علي مصدر تاني وهو كتاب "واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني " لأحمد بن زنبل الرمال" وهو أفضل المصادر بالنسبة لي أولا لأن مؤلفه عاصر الأحداث بنفسه وكان ملاصقا لأمراءالمماليك وكان يقرأ لهم الرمل ولذلك سمي " الرمال " ثانيا الكتاب مختصر وبيركز علي الاحداث و الوقائع المهمة بشكل مباشر

المخطوط الأصلي اسمه " كتاب تاريخ وقعة الغوري هو والسلطان سليم وما جري له مع الجراكسة و الملك طومان باي من الحرب الشديد و الطعن المزيد بوجود خاير بك و الغزالي علي التمام و الكمال و الحمد لله علي كل حال "
المخطوط حققه عبد المنعم عامر ونشرته الهيئة العامة للكتاب مرتين ..مرة ضمن اصدارات أدب الحرب و مرة ضمن اصدارات الألف كتاب الثاني مع مقدمة قيمة جدا للدكتور عبد الرحمن الشيخ.

خرج الغوري لملاقاة بن عثمان ووصل إلي غزه و أول ما وصل الناس خرجت تشتكي إليه من نائبه في غزة ..الغوري عمل فيها غضبان و أمر بعزل الوالي وسجنه...ويومين وخرج الوالي ورجع لمنصبه ...أصله كان ابن عم السلطان الغوري قعد في غزة تلات أيام وصله خلالها رسالة من نائبه علي بلاد الشام الأمير سيباي ينصحه فيها بالبقاء في مصر و إرسال المماليك الي قتال ابن عثمان ويحذره من خيانة الأمير خاير بك الغوري ما سمعش الكلام ..ليه علشان كان في واحد رمال بيقرأ الرمل قال للغوري إن نهايته هاتكون علي يد واحد أول حرف من إسمه سين فالغوري ظن انه الأمير سيباي والرمال المقصود هنا واللي قال كدة للغوري هو احمد بن زنبل مؤلف الكتاب و ده يورينا إن الراجل ده كان قريب جدا من الاحداث.
طيب ليه دماغ الغوري راحت ناحية سيباي مش ناحية سليم العثماني و ليه لم يهتم بأخبار خيانة خاير بك ..ابن زنبل بيقول انه كان معتقد إن إبن عثمان لن يجرؤ علي دخول مصر و لو دخل المماليك هايقطعوه و خاير بك ده راجل جبان أصلا...طيب راجل جبان وواخده معاك الحرب يا غوري..؟؟ أما سيباي فكان راجل شجاع لا يهاب الموت ذا عزم شديد و بأس مديد علشان كدة الغوري المغفل خاف منهز نيجي بقي لسبب المعركة..الموضوع تاريخيا غامض شوية مصادر كتير بتقول إن سليم الأول مكانش ناوي يدخل مصر خالص و كان مشغول بحربه مع الشاه اسماعيل الصفوي و مصادر تانية بتقول إن الغوري كان خارج للصلح بين
سليم و إسماعيل الصفوي .حتة كدة علي الهامش للناس اللي بتقول علي الغزو العثماني فتح..السلطان سليم حارب أبوه علشان يستولي علي العرش و بعد ما استولي علي العرش قتل اخوته.
ابن زنبل بيقول إن سبب العداوة بين سليم والغوري إن سليم كان له أخ اسمه قرقود هرب من بطش أخوه سليم إلي مصر لأنه كان عايز يقتله فاستضافه الغوري ولما أرسل سليم في طلبه رفض الغوري وبيحكي قصة تانية تسببت في شدة العداوة بين سليم و الغوري و هي أن السلطان سليم مر بجيشه بمدينة في الشام كان نائب الغوري عليها اسمه علاء الدولة ..الراجل ده رفض يمد جيش الغوري بالأكل وأمر الناس الا يبيعوا شيئا للجيش و قام بتحصين المدن فغضب ابن عثمان و أراد محاربة علاء الدولة ولكن المستشارين نصحوه بالشكوي إالي الغوري فالغوري أحسن استقبل سفراء سليم وقال لهم أن علاء الدولة عاصي أمري و إن قدرتم عليه اقتلوه ثم أرسل سرا إلي علاء الدولة يشكره علي ما فعل و يحرضه علي قتال بني عثمان. ما تعرفش ازاي السلطان سليم شعر إن الغوري راجل مش تمام و إنه بيلعب عليه " فتحملت نفسه منه غاية التحمل". كمل السلطان سليم طريقه لمحاربة الشاه اسماعيل الصفوي و بعد انتصاره عليه وفي طريق عودته قرر محاربه علاء الدولة.
من سنين طويلة كان يحكم المنطقة دي رجل اسمه شهوار أخو علاء الدين ويبدو إن علاء الدولة طمع في الحكم ففضل يعمل مؤامرات علي أخوه لحد ما تسبب في تسليمه الي السلطان قايتباي في مصر فشنقه علي باب زويله وكان لشهوار ابن هرب إلي السلطان سليم وكان معه في جيشه اللي حارب الشاه اسماعيل الصفوي فلما وقف جيش سليم أمام جيش علاء الدولة خرج ابن شهوار إلي الميدان وقال انا ابن شهوار ..أين من ربي في أنعام ابي.؟ اين المحبون لي ولوالدي ؟ فليأتوا تحت سنجق " راية" من حماني من عدوي ..وهوب وقع الانقسام في جيش علاء الدولة و هزم شر هزيمة و تم القبض علي علاء الدولة وأولاده وقطعت رؤوسهم و أرسلها سليم إلي الغوري " فلما رآهم أحس قلبه بزوال ملكه لما يعلم من من اختلاف عسكره عليه كما وقع لعلاء الدولة فإن الملك ليس هو ملكا إلا بالعسكر فإذا انحرف عليه عسكره ضاع ملكه. بعد هزيمة علاء الدولة طمع ابن عثمان في أخذ مصر فاستشار اثنين من كبار وزراءه في الأمر فقالوا له إنهم اخر مرة واجهوا المماليك هزموا شر هزيمة وواحد من الوزيرين اسمه إبن هرسك وقع أسيرا في يد السلطان قايتباي فعفا عنه ولكن إبن عثمان لم يسمع للوزيرين و أمر بعزلهما وتحرك بجيشه صوب مصر.


كان جيش الغوري قد وصل الي حلب "ودخل جنوده المدينة و أخرجوا الناس من بيوتهم وسبوا حريمهم وأولادهم و آذوهم الأذي البليغ وكان ذلك سببا لقيام أهل حلب مع السلطان سليم علي الجراكسة لشدة ما حل بهم من الضرر منهم.
الجزء اللي جاي ده غريب جدا ..في حلب وصل للغوري رسول من ابن عثمان – قاضي اسمه زبرك زاده- فأحسن الغوري استقباله ولما سأله عن السلطان سليم قال الرسول " هذا ولدك وتحت نظرك فقال له الغوري لولا أنه مثل ولدي ما جئت من مصر الي هنا بأهل العلم جميعا حتي نصلح بينه وبين اسماعيل شاه..ثم أجزل العطاء له و صرفه تقريبا كل واحد منهم كان بينيم التاني علشان يغفله. وبعدين الغوري حب يرد الزيارة للسلطان سليم وفكر يرسل له رسول يجس النبض ويشوف إيه النوايا فلما شاور الغوري أكابر دولته في ذلك اقترحوا عليه أن يرسل رجلين من اهل العلم و الدين ليتكلما بالمعروف رجاءا لحقن دماء المسلمين ولكن الغوري لم يفعل وأمر الأمير "مغلباي" ومعه عشرة من خيار العسكر بالتوجه إلي ابن عثمان وهم ملبسين بالملابس الفاخرة كل من رآهم يتعجب في خلقهم وحسن خيلهم وهندامهم وهم كالعرائس..وغالبا كانوا لابسين لبس الحرب لأنهم لما دخلوا علي ابن عثمان قال لهم بغيظ : يا مغلباي أستاذك ما كان عنده رجل من أهل العلم يرسله لنا..؟؟ و إنما أرسلك بهؤلاء العشرة يرعب بهم قلوب عسكري ويخوفهم برؤية أجناده ولكن انا أكيده بمكيده أعظم من مكيدته ثم أمر برمي رقبة مغلباي و جماعته وبعد وساطة كبار الدولة قتل الجنود فقط و أمر بسجن مغلباي يومين ثم احضره و حلق ذقنه و البسه طرطورا و ركبه علي حمار اعرج معقور وقال له قل لأستاذك يجتهد جهده وها أنا حضرت اليه كالبرق الخاطف و الرعد القاصف. فلما تأكد الغوري أن الحرب قائمة لا محالة أرسل الأمير "كرتباي الوالي" ليستطلع أخبار جيش ابن عثمان فبعد فترة وجيزة رجع كرتباي وأخبر السلطان أن مدينتي قيصيرية و عنتاب_مدن تابعة لسلطة الغوري_ قد عصوا علينا و أرادوا قتالنا فارتج عسكر مصر لذلك ووقع فيهم الخلل فعند ذلك انتبه الغوري و جمع الأمراء و تحالفوا علي أن لا أحد منهم يخون صاحبه ووسط إجتماع الأمراء قام الامير "سيباي" نائب الشام وقبض علي الأمير خاير بك نائب حلب و جره من طوقه بين يدي السلطان الغوري وقال له يا مولانا إذا أردت أن ينصرك الله علي عدوك فاقتل هذا الخائن و كان خاير بك في يده كالشاة بين يدي السبع وهو يجره عندئذ تدخل خائن آخر وهو الامير قنبردي الغزالي _و أحيانا يذكر بإسم جان بردي الغزالي_ و قال للسلطان لاتفتن العسكر و تبدأ في قتال بعضهم بعضا فتضعف شوكتكم فصدقه الغوري وأمر أن يتحالفوا بينهم و الا يخون منهم أحد..كان راجل مغفل الغوري ده.